بقلم د.محمد ياسر القضماني - الأربعاء 09/02/2011
الحمد لله و الصلاة على سيدنا رسول الله و آله و صحبه أجمعين وبعد ما دعاني
لكتابة هذا المقال هو إن إنكار بعضهم على ما يسمى بالمولد, واعتبار ذلك
بدعة مذمومة، والتهويل على أصحابها وبخاصة في شهر ربيع الأول كل عام رغم
أنه لا يخرج المولد عن كونه دعوة للاجتماع في مسجد أو غيره يظهر أهله حب
النبي صلى الله عليه وسلم, فيقرأ فيه من دواوين منظومة أو منثورة شيء من
أخباره عليه الصلاة والسلام وشمائله, ويتخلل ذلك مدح وأشعار في الثناء على
المختار، وقل أن يخلو من توجيه عالم أو إرشاد مربٍّ لمحاسبة النفوس وإصلاح
الشؤون، والتهييج على الدعوة إلى الله تعالى, والتزهيد بالدنيا والترغيب
بالآخرة، ثم يتفرقون على ذواق غالبا كهدي الصحابة الكرام.
تحرير محل النزاع: المعترض على إقامة المولد النبوي يحتج بأنه لم يكن في العهد النبوي مثل هذه الاجتماعات المنطوية على ما ذكرنا في وقت واحد في زمن معين, وإلا فأفراد ما يقع فيها لا استنكار له، فمن ينكر قراءة شيء من القرآن أو الحديث عن مولده وشؤونه عليه الصلاة والسلام، أو مدحه أو إكرام المسلم وإتحافه بطعام أو شراب؟! إذن حصر الإشكال باجتماع مبتدع لهذه القربات, وتخصيص وقت لها كما يقولون! لا إنكار في الخلاف المعتبر، وتقسيم البدعة: نقول إن الحوادث التي لم تكن في العهد النبوي في العبادات أو العادات هناك من يقول من أكابر العلماء بأنها يعتريها الأحكام الخمسة عند عرضها على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي بدع واجبة؛ كالاشتغال بعلم النحو الحادث لفهم كلام الله ورسوله؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإن دخلت الحوادث في قواعد التحريم فهي محرمة؛ كاعتقادات القدريّة و الجبرية ممن قال بقول لا سَلَفَ له. وإن دخلت الحوادث في قواعد الندب فهي مندوبة؛ كإحداث المدارس، وصلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد. وإن دخلت الحوادث في قواعد المكروهات فهي بدع مكروهة؛ كتزويق المساجد والمصاحف. وإن دخلت الحوادث في قواعد المباحات؛ كالمصافحة عقب المكتوبات بين المصلين, والتوسع في المآكل وغيرها, فهي مباحة. هذا الاتجاه في الفقه الإسلامي لفهم البدعة ليس جديداً, وإنما من رؤوس من قال به الإمام الشافعي رحمه الله. وممن قال به و نحا نحوه: العز بن عبد السلام، النووي، أبو شامة، القرافي، الزرقاني، ابن عابدين، ابن الجوزي، ابن حزم – رحمهم الله – وهم أعلام من المذاهب الأربعة المتبوعة مع ابن حزم من مشاهير المذهب الظاهري. عَرْض بدعة المولد على قواعد الشريعة: بناء على ما مضى من اتجاه تقسيم البدعة وما يعتريها من الأحكام الخمسة: الوجوب، الحرمة، الكراهة، الندب، الإباحة؛ لن تجد أصحاب هذا الاتجاه مختلفين في وضع المولد – بالمعنى الذي قدمت به – ضمن البدعة المستحبة, ومن سمعتَه يقول: بل هي بدعة واجبة؛ فهو – كما يقولون – في لغة المحبين؛ فإنهم لمّا رأوا إعراض الناس عن كثير من السنن والشؤون النبوية، ورأوا آثار إقامة الموالد في تهييج الناس للمتابعة، وبذل النفيس في سبيل النصرة لله ورسوله، لمّا رأوا ذلك قالوا هذا على سبيل التهييج للجلوس في مجالسهم والدعوة إليها! قولة الفاروق عمر: (نعمت البدع هذه): ما رأي من هاجم تقسيم البدعة كما مرّ، واحتجاج أصحابه بقول سيدنا عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه) على جمع الناس على التراويح وراء إمام واحد أقول ما رأي من هاجم تقسيم البدعة على حسنة و قبيحة إلا أن يقول: قَصْدُ عمر هو المعنى اللغوي!!! نقول: هذا القول بأن إرادة عمر من البدعة البدعةُ اللغوية وحسب مبتَدع لم يذهب إليه أحد؛ فقولة عمر كانت في إثر هذا الأمر الشرعي وهو الصلاة؛ وليس الكلام هنا وإن أطلق منصرفاً إلا للمعنى الاصطلاحي؛ فمؤدى كلامه: إن جمعي لهم في الصلاة وراء إمام واحد بدعة مستحبة؛ فقد مدحها بقوله: "نعمت" ولو فهم من قول النبي صلى الله عليه و سلم: (كل بدعة ضلالة) ذم كلّ جديد مبتدع لما جرؤ على إطلاق كلمته؛ إذ كيف يستحسن ما أطلق ذمّه عليه الصلاة والسلام؟! لا،لا! فالصحابة سمعوا أيضاً: (من ابتدع بدعة ضلالة) (عند ابن ماجه و الترمذي و حسنه) وسمعوا: (من سنّ سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة ...), وفي الحديث الحسن عن ابن مسعود: ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن). فَفَهم أن الجديد مادام لا يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعا فهو سائغ؛ وإلا فهي بدعة ضلالة منهي عنها, [كما ذهب بذلك إمامنا الشافعي رحمه الله, انظر (تهذيب الأسماء و اللغات) للإمام النووي مادة (بدع), وتقسيم الإمام الشافعي والعز بن عبد السلام للبدعة]. فلسنا نحن الذين نفسّر كلام الفاروق عمر بن الخطاب بهوانا لنروّج لإقامة الموالد, وإنما هو تفسير أكابر العلماء؛ وهل كان يعزر الشافعي والعز وغيرهما ممن ذكرنا أهل أهواء وترويج للبدع؟! ثناء العلامة ابن كثير على أول من ابتدع المولد: في كتاب "البداية و النهاية" المرجع الشهير للتاريخ عندنا أثنى صاحبه الإمام ابن كثير على صاحب إربل الملك المظفر أول من أحدث فعل المولد وقال عنه (13/136-137): (أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، كان يعمل المولد النبوي الشريف في ربيع الأول, ويحتفل به احتفالاً هائلاً وكان شهما شجاعاً ... عاقلاً عالماً عادلاً , رحمه الله وأكرم مثواه, وقد صنّف له الشيخ أبو الخطاب بن دحية مجلداً في المولد النبوي سماه: "التنوير في مولد البشير النذير" فأجازه على ذلك بألف دينار...). فهل ترون ابن كثير يذمّ هذا الذي ابتدأ بتعظيم المولد كما يروّج بعضهم؟! تأليف الموالد في مصنفات أكابر العلماء: أحصى الدكتور صلاح الدين المنجد في كتابه: "معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ممن كتب تآليف في المولد الشريف فبلغت (160) بين مخطوط ومطبوع من علماء وصلحاء المسلمين، يقرأ الكثير منها في بلاد المسلمين شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً, ثم أحصى الدكتور المنجد غيرها, وهذا منذ عام (1402/1982). فهل يتواطأ علماء المسلمين وفقهاؤهم وصلحاؤهم على كتابة كتب لمجالس يعصى الله ورسوله فيها, أم أنهم يفعلون ذلك متشرّفين متبركين بذلك؟! صاحب الذكرى يدعو للاحتفال بمولده: فصيامه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين, وتعليله ذلك لما سئل بأنه ولد فيه، وهو يوم بعثه (برواية أبي قتادة في مسلم) فيه الدلالة الواضحة لعناية نبينا بالأزمنة الفاضلة. يقول ابن الحاج في كتابه "المدخل" (2/3): (الأمكنة والأزمنة لا تتشرف لذاتها, وإنما يحصل لها التشريف بما خُصَّت به من معاني). ومن هنا كما علم عليه الصلاة والسلام أن اليهود يصومون في عاشوراء فقال: (أنا أحق بموسى)، أي بأن أفرح وأبتهج وأشكر لهذا المعنى الجليل، وهو نجاة نبي كريم. وكذلك الأماكن المشرفة شُرِّفت لانتسابها لمُشَرَّفين؛ فالمساجد الثلاثة ارتبطت بالأنبياء فعمُرت بالطاعات لهذا المعنى. انظر في رحلة الإسراء أشار سيدنا جبريل على سيدنا الرسول بالنزول وصلاة ركعتين ثم قال له: أتدري أين صليت؟قال: لا، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى. (البيهقي في "الدلائل"). ومن هنا نجد الأزمنة والأمكنة المباركة تزدان بالخير والطاعات، فإذا جاء شهر المولد الشريف اهتاجت الأرواح أكثر للعناية به؛ لأنه شهر المولد الشريف, فناسب لِمَا ضَمَّ الكريمَ التكريمُ، ولِمَا حوى العظيمَ التعظيمُ! إساءات الجهلة لا تلغي استحسان الاحتفالات: إساءة بعضهم بارتكاب جهالات أو مخالفات في بعض الأماكن التي تعقد فيه الموالد لا تلغي عنايتنا بها؛ إذ إن العامّة يحتاجون للنصح والتذكير والتوجيه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فنحن لا نلغي الطواف المسنون حول الكعبة ولا نُقْصِر مِنْ حجنا النفل لوجود مخالفات في مكة ومنى وعرفات وغيرها! وهل من العدل أن يعمم الحكم على كل الموالد بأن فيها الاختلاط وكذا مع العلم أن كثيراً منها بل أكثرها يقوم عليه أكابر من العلماء و الدعاة و الصالحين المعتبرين في بلادهم من عالمنا الإسلامي الكبير ؟! الفرح جبلي فطري بالحبيب الأعظم و شؤونه فانتفعوا به: لا بد أن يكون ابتهاج في الذكريات النبوية والإسلامية؛ لأنها تذكر وتبعث على مزيد من الحضور مع أصحاب هذه الذكريات؛ فالعقل يقتضي أن أُوَجِّه هذه المظاهر المبتهجة، والجموع المحبة للذكرى و صاحبها, لا أن أهاجمها و أصْرِفها وقد حضرت تريد الاستماع والانتفاع!! وهل ستلام يوم القيامة لأنك في ليلة المولد الشريف تكلَّمْت في مَجْمَع اجتمعوا على محبة رسول الله والتذاكر في شؤونه؟! لا يجلس واحد من المعترضين في هذه المجالس المنضبطة بعلماء لا متكلماً ولا سامعاً، لماذا يا هذا؟ لأن هذه اللقاءات والموالد بدعة!! ولو حضر لسرَّ. أخيراً كلمة من القلب لإخواني: يا من لا ينشرح للجلوس في اللقاءات والموالد هذه المنضبطة بنظر الأخيار؛ لا أقل من أن تَسْلَم أعراض أصحابها؛ فهم من أهل القبلة وإخوانكم في العقيدة! سدّد الله الخطى, وألهمنا الصواب, والحمد لله أولاً وآخراً.
|