سوق النساء بمدينة المكلا له نكهة جميلة وعبق خاص لقدمه وموقعه المتمدد بين أزقة متعرجة فبالكاد عرضه يتسع لشخصين ، تطل عليه منازل حي الحارة ذات الطراز المتفرد الذي يجمع بين الأصالة والتحديث .
بقلم : ليلى غانم
فهذا السوق ينقلك وأنت تتجول فيه إلى أزمنة غابرة اتسمت بها مدينة المكلا ، ويثير فيك شعوراً بالدهشة والسؤال لماذا سمي بسوق النساء وباعته من الرجال ؟! إذ أنك لا ترى المرأة البائعة .. فسرعان ما تجد الجواب حين تعرف أن المكلا كانت تعيش انعزالاً تاماً عن العديد من المدن العربية التي قد تجد فيها أسواقاً أكثر من يرتادها من النساء وتجد أكثر بائعيها من النساء أيضاً ، وذلك بسبب الحاجز الكبير الذي يمنع المرأة الحضرمية آنذاك من ارتياد الأسواق العامة لذا اختير هذا المكان سوقاً للنساء ، لتوسطه المنازل والتي كانت تتحدد بثلاثة أحياء هي "حي البلاد وحي الحارة وحي برع السدة " .. وأنت تدلف هذا السوق يتجسد أمامك زمنان متعايشان زمن مضى مختلف تاريخياً ضاجاً بالذكريات ، وزمن لا زال عائشاً يعج بالحياة ويتطلع إلى زمن آخر لا ندري ماذا سيكون كنهه .
تجده كما كان يستقبل الشارين والمتفرجين والمتفاضلين ، الكل جيئة وذهاب ، هرج ومرج وسؤال عن حاجة ما أو استفسار عن قيمة بضاعة ومساومة وجدل وشراء وبيع ومحاولات لاسترجاع بضاعة ما تم شراؤها قبل حين وشد وجذب .
بادئ ذي بدء بحثت عن معلومات أولية عن هذا السوق ، فلم أجد غير بعض الأقوال المتفرقة من بعض الرجال والنسوة الذين عايشوا هذا السوق أو تعاطوا معه ، ولم أجد من سبيل إلا أن ألج هذا السوق لأبحث ميدانياً لعل الذاكرة الجمعية تسعف البعض ونكون معاً مبحث أو مرجع لهذا السوق القديم .. فنظرت إلى الأزقة والمحلات وأصحاب المحلات بعين الباحثة و الصحفية التي طالما هجست بالكتابة عن هذا السوق ليجد مساحة بارزة في موقع محافظة حضرموت الإلكتروني واقتحام حقيقة هذا السوق وفك مغاليقه والتعرف عليه والتعريف به .
رأيت محلات صغيرة وباعة باسطي بضائعهم وأكشاكاً بين أزقة تتسع وتضيق ونساء يتوافدن ونساء يغادرن المحلات وكان الجواب على السؤال :
كانت المرأة في مدينة المكلا لا ترتاد الأسواق العامة لشراء حاجتها من الملابس والحلي وأدوات زينتها .. لذا يجد الرجال معاناة عندما يبتاعون شيئاً لا يروق لنسائهم من هنا جاءت فكرة قيام سوق خاص بالنساء وفي حي الحارة للمزايا الآنفة الذكر التي يتميز بها هذا الحي البعيد عن الأنظار لكي تذهب المرأة بنفسها لشراء ما تحتاجه من السوق بدلاً من أن يشتري لها أبوها أو أخوها أو زوجها أو بدلاً من أن تأتي إليها الجلابات اللواتي اعتدن بيع بضائع التجار أو ما يأتي به المغترب أو ما يرسله إلى أهله من ملابس لبيعها أو الاتجار بها . .
ويكتظ السوق بالملابس والحلي الفضية والتي اختفت حالياً بعد ظهور الذهب وبعض المجوهرات الأخرى التقليدية التي قلما تجدها وإن وجدتها فتجدها عند المرأة البدوية والريفية التي لا زالت تتحلى بهذه الحلي الفضية إذ أنها غدت من التراث ..
وكانت حلي المرأة تتكون من "المرَّية" وهي عقد من الفضة تلف حول العنق وأقراط مدورة وخواتم لأصابع اليدين وكذا الرجلين . و"طُرة " وهي عبارة عن سوار مطلي بالفضة تضعه المرأة حول كعبي القدمين و" خلاخل " جمع خلخال يأتي في شكل هلال وهو مجوف توضع بداخله قطع صغيرة من الأحجار ليحدث رنيناً عندما تحرك المرأة ساقيها عند الرقص الذي يقال له في حضرموت " الزفين " و" الحجول " مفردها "الحجل" وهو كالخلخال تماماً لكن يأتي أصم وتتدلى قراقيش تحدث رنات موسيقية أثناء رقصة الزفين المشهورة بها حضرموت في أعراس النسوة . وهذا قديماً لا تمتلكه إلا الأسر الميسورة الحال آنذاك ..
أما مواد الزينة فكانت بسيطة فمثلاً كان الطين "القيصه" يقوم بما يقوم به اليوم الشامبو لغسل الشعر و "الغسه" أي أوراق أشجار السدر المسحوق ، أما "البضاعة " أو "البصيلة" وهي أزهار الورد المجففة التي تعجن وتلطخ بشعر الرأس ليجدل الشعر في شكل ضفائر صغيرة إلى جانب "الهرد" وهو عروق نباتية تعطي لوناً أصفراً تمسح به المرأة وجهها حلت محله اليوم البودرة أو المكياج وفي المناطق الأكثر حرارة تمسح المرأة كل أجزاء جسمها بالهرد ليعطي بشرتها طراوة ويقيها من وهج الشمس .
بعد أن توسع ميناء المكلا تحديداً في عقد الخمسينيات من القرن العشرين بعد ازدهار الميناء نقلت السفن الشراعية الحضرمية " كالصرك " أو " القادري " هاتين السفينتين المشهورتين في حضرموت جلبت أنواعاً جديدة من الملابس والأغذية والبضائع الأخرى بل وأخذت المكلا تستورد متطلباتها ومتطلبات حضرموت والمهرة وأجزاء من مناطق شبوة مباشرة من الخارج فازداد حجم الاستيراد بعد ظهور وسائل النقل الجديدة كالبواخر ، وبازدياد الهجرة إلى الخارج ازداد إرسال أنواع جديدة من البضائع ومتطلبات الحياة ومنها الملابس والأزياء ، بل ونقلت إلى حضرموت عادات وتقاليد البلدان التي يذهب إليها المهاجر مثل الفساتين والعباءات النقاب الحديثة وكان للمواطن عوض غرامة الشرفي السبق في اقتحام أول محل لمثل هذه الملابس والذي يقع في الشمال الشرقي لمسجد عمر المواجهة لمنزل العمودي غرباً وقد عرف المواطن عوض غرامة الشرفي بوضع مسميات على الأقمشة التي يعرضها كأسلوب للترويج وعادة ما تكون هذه المسميات مرتبطة بالأحداث الواقعة أو ببعض الأعلام والشخصيات الوطنية والعربية مثل "بانهيم" أو "السلال" و"الغشمي" أو "شارع الكويت" وغيره وكذا بعض التسميات الجاذبة للزبونة في العطورات أيضاً مثل العطر النسائي الذي اشتهر آنذاك والذي سمي بـ "خير لنا" "جنة النعيم" "الليالي الملاح" ... الخ .
وقد خلف هذا المواطن أبناؤه الذين يتوزعون التجارة اليوم على السوق كل متخصص في نوع من التجارة مثل بيع دواء الأعشاب والملابس والمكياجات ومساحيق الزينة ولوازم المنازل ..
أما اليوم وبعد الاختلاط فيما بين المحافظات والبلدان العربية أدخل الفستان العربي الحديث أو الثوب المطرز القادم من دول الخليج والذي يأتي إليها من الهند وأدخل البنطال والماكسي ذات القطعتين مثل البلوزة أو التنورة إلى جانب اقتناء الحلي الذهبية المستوردة والمصنوعة محلياً إلى جانب البلاتين والكريستال ومستحضرات التجميل وكل أنواع الملابس الجاهزة المستوردة التي تعج بها سوق النساء الذي أخذ يعيش ازدحاماً كثيراً خاصة وقت الأعياد لا سيما نهاية شهر رجب وحتى الأول من شوال من كل عام بعد التطور والانتعاش الاقتصادي والتجاري الذي شهدته مدينة المكلا بعد الوحدة المباركة وانتشار الأسواق العديدة التي أخذت ترتادها المرأة اليوم .
وصار سوق النساء اليوم مزاراً للسياح والزائرين لتميزه وتاريخه وموقعه القديم إذ أن الذي يلجه يقضي نزهة ممتعة بين أزقته الضيقة ومحلاته وأكشاكه فترى أنواع الحناء واللبان والبخور ومسحوق أشجار السدر .
سيظل هذا السوق ينفح أصالة ويفوح تاريخاً شكل جزءً من حياة وتاريخ مدينة المكلا . ونتمنى ألا تمسه رياح التغيير العمراني بحجة الاستثمار هذه الحجة التي يعلقها رجال المال والأعمال بهدف الإثراء ومسخ التاريخ والجمال . إنه سوق النساء بمدينة المكلا .. السوق الذي فيه يتعايش زمنان .أولهما مفعم بالذكريات وثانيهما مازال منعشاً بالحياة والحركة .