بقلم : عبد القادر سعيد بصعر
• لقطة (1) الشيخ الناخبي إلى دار الخلود
انتقل إلى جوار ربه بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية الشيخ الجليل والمربي الفاضل عبد الله بن أحمد بن محسن الناخبي يوم الأحد الموافق العاشر من شهر يونيو 2007م عن عمر ناهز المائة وسبعة عشر عاماً ، ولقد كان لهذا النبأ المحزن تأثير بالغ على كل الأوساط والشرائح الاجتماعية والتربوية والثقافية والعلماء في حضرموت بصورة خاصة واليمن بصورة عامة ، حيث إن فقدان هذا العالم الجليل الموسوعي الثقافي والعصامي يعتبر خسارة كبيرة على الأوطان والمجتمعات ولكنها إرادة الله في خلقه الذي قهر عباده بالموت قال تعالى ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . صدق الله العظيم .
وما بين ميلاده في منطقة ( حمحمه ) بيافع السفلى في عام 1313هـ عند حدوث وقعة ( حوته ) بين قبائل حجر ويافع وانتقاله إلى الرفيق الأعلى ودار الخلود ، قصة حياة مليئة بالكفاح والصبر والجلَد لهذا الطود الشامخ ذلكم العالم الجليل ، والمربي الفاضل ، ورجل الدولة ، والمصلح الاجتماعي ، والواعظ والمرشد الديني والأديب والشاعر ورائد تعلم الفتاة . يجب أن تحاط بالوقفات الجادة من قبل المهتمين والباحثين ممن عاصروه وممن أتوا بعده واطلعوا على جوانب من سيرة حياته ومؤلفاته ، إنها حياة حافلة جديرة بالدراسة والتأمل فهل نحن فاعلون ؟
• لقطة (2) ريادة تعليم الفتاة بين الشهاري والشيخ عبد الله الناخبي ولكم الحكم !
وقع في يدي مؤخراً العدد (273) من ملحق الثورة الأسبوعي الصادر عن صحيفة الثورة فتصفحت هذا العدد ولفت انتباهي الصفحة الثانية متابعات ولقاء مع الأستاذ علي الشهاري رائد تعليم الفتاة في اليمن التقاه الصحفي كمال محمد حيث ورد أنه فتح أول مدرسة لتعليم الفتاة وأسماها ( الفوز ) وكان ذلك عام 1958م وأطلق عليه رائد تعليم الفتاة في اليمن .
والحقيقة أن هذا الجزم بإطلاق رائد تعليم الفتاة في اليمن لم يستند إلى تتبع تاريخي ، حيث أنني متواجداً في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية عام 1997م فأتيحت لي الفرصة للقاء بالشيخ الجليل مربي الأجيال ورائد تعليم الفتاة في حضرموت ولم أجزم بأن رائد هذا التعليم في اليمن ربما سبقه آخرون إلى ذلك خاصة في مدينة عدن التي سبقت المدن اليمنية قاطبة في حركة التنوير والتعليم خاصة تعليم الفتاة ، لكن الأمر لم يحسم بعد إلا إذا أقدمت وزارة التربية والتعليم على تشكيل لجنة من رواد التعليم في اليمن والباحثين في مجال التربية والتعليم لإعداد كتاب عن تاريخ التعليم في اليمن سيكون المرجعية لنا جميعاً حيث ستتعرض المعلومة للتمحيص والتحليل والتدقيق .
وهناك دليل على مؤكد على أن شيخنا الجليل مربي الأجيال عبد الله بن أحمد الناخبي طيب الله ثراه قد سبق الأستاذ علي الشهاري بأكثر من عشرين عاماً في افتتاح أول فصل دراسي لتعليم الفتاة في حضرموت عام 1936م وتحديداً مدينة المكلا جاء ذلك خلال رده على سؤال وجهته عن بدايات تعليم الفتاة في حضرموت فرد بقوله ( تعليم البنت من الأهداف التي كانت ملحة علي ، لكن ماذا أعمل ليس أمامي أي بنت أو امرأة لديها تعليم كان وعندما جاءت إلينا بنت بلغت سن التمييز ، بدأت أفكر في تعليمها وهناك بنت أخرى في نفس سنها وجدناها في البيت الذي سكنّا فيه ، فجمعت الاثنتين وبدأت في تعليمهما على الطريقة المعروفة في المدارس علمتهما القراءة والكتابة والقرآن الكريم والفقه والتوحيد ، وهي نفس البرامج التي يتعلمها الأولاد في المدارس ، واستعنت ببعض المدرسين .
فأصبح لدى البنتين أهداف طيبة ومعلومات وعلوم جيدة وفتحت أول مدرسة بغرفة واحدة وأربع بنات ، ولم يمضِ سوى شهر حتى احتوى الفصل على تسعين طالبة ، فأصبحت أفكر في مستوى الاختلاف بين الطالبات ، فقسمت الطالبات إلى فصلين بموجب نظامنا في المدرسة ، وكانت الابنتان السابقتان ابنتي وبنت اليماني التي أصبحت زوجتي فيما بعد ، تتبادلان تدريس الطالبات وقام أحد العلماء من تريم قالوا له إنها مدرسة فتحت للبنات يتعلمن القراءة والكتابة والمدرسة التي فيها ( الناخبي ) فيه ألعاب وفيها كشافة ، بملة علينا في المساجد وحكم بتكفيري وكفر من أدخل بناته المدرسة وفضل أن تدخل البنت أو الولد حانة خمر على أن يدخل هذه المدارس ، وصارت المواجهة بيني وبينه إلى أن بلغت الدولة فطلبوه وقالوا له ( ما هذه الفتوى التي أصدرتها ؟) ولكنه لم يستطع إظهار أي حجج فيما شددنا نحن عليه وقلنا له ( أما أن تكتب هذا السؤال وترد عليه ) لكنه لم يرض أما الحكومة فتولت الأمر بعد ذلك عرفت أنه كان مخطئاً وهددته بأنه سيتعرض لأذى من الطلاب إذا لم يتراجع عن كلامه فخاف على نفسه وذهب إلى بلاده ، وبعد حين بدأ الناس يدركون ما نعلمه للبنات إضافة إلى ما يتعلمه الأولاد إذ نعلمهن التدبير المنزلي ، وكيف تساعد البنت أمها ، وكيف تقوم بشؤون البيت كما كنا نسأل الآباء والأمهات عن بناتهن هل يؤدين الواجب فإن قالوا ( نعم ) فرحنا وشجعنا البنات وإن قالوا ( لا ) نقوم بإيقاف البنت ونقول ( هذه الطالبة لم تقم بالواجب ) فكان هذا يكفيها توبيخاً لكننا نقول لها ( لا بد أن تعملي مثل أخواتك ) . واستمرت المدرسة من عام 1936م إلى عام 1940م وتخرجت طائفة ممتازة من الطالبات ، ولا يوجد لدينا إمكانيات تعيننا على مواصلة المناهج العليا فالتعليم كان مقتصراً على المستوى الابتدائي لكنه تعليم قوي فيه عمق في الدراسة حيث مثلاً البنات اللاتي تخرجن نخبة ممتازة فتعلمن الخياطة والتطريز وغير ذلك ، كما دخلت ماكينة الخياطة في كل بيت ولم تكن معروفة في المكلا من قبل ، وبعد ذلك حدث انتشار وتوسع في تعليم البنت فبعد أن كان عدد الطالبات (150) طالبة أصبح (350) طالبة وحدث إقبال كبير فانتقلنا إلى بيت جديد لكنه ازدحم بالطالبات فبحثنا عن بيت أوسع منه .
تلك كانت الإرهاصات الأولى لتعليم الفتاة في حضرموت والتي تحدث عنها واحد من روادها ومؤسسيها الأوائل الشيخ الجليل مربي الأجيال عبد الله بن أحمد الناخبي طيب الله ثراه وقد سبق الأستاذ علي البشاري الذي افتتح أول مدرسة للفتاة في صنعاء عام 1958م حيث أن الشيخ الناخبي سبقه بأكثر من عشرين سنة وإنصافاً للحقيقة والتاريخ نقول إن الأستاذ علي البشاري يعتبر رائد تعليم الفتاة في صنعاء ، أما الشيخ الجليل مربي الأجيال عبد الله بن أحمد الناخبي فإنه رائد ومؤسس تعليم الفتاة في حضرموت وإلى أن تظهر حقائق أخرى لمن الريادة في تعليم الفتاة في اليمن ستظهر هذه الحقائق جلية وساطعة في مستقبل الأيام إن شاء الله .
• لقطة (3) الشيخ عبد الله الناخبي ومضايقات الحكم الشمولي
بعد سقوط السلطنة القعيطية على يد ثوار الجبهة القومية في السابع عشر من شهر سبتمبر 1967م وبعد مرور أربعين يوماً أي في الثلاثين من نوفمبر 1967م تحقق الاستقلال وتوحدت (21) إمارة وسلطنة ومشيخة في دولة وطنية ذات سيادة ، ولم يقف الشيخ عبد الله بن أحمد الناخبي رحمه الله موقفاً عدائياً من هذه الدولة الوليدة والفتية بل تفاءل خيراً مع مختلف شرائح المجتمع في حضرموت والوطنيين الغيورين على مصلحة أمتهم في أن هذه الدولة ستسعى نحو تحقيق الرخاء والسعادة لأبنائها ومواطنيها وقد تجلى ذلك من خلال إبداعه في العديد من القصائد الوطنية منها أنشودة ( لبيك يا موطني ) وأنشودة أخرى بعنوان (دقت الساعة هيا للعمل) الذي وضع ألحانها وغناها بصوته الأجش المعبر الفنان الشعبي الكبير كرامة سعيد مرسال وتم تسجيلها لإذاعة المكلا التي تحرص على إذاعتها مع إطلالة العديد من المناسبات في فترة أواخر الستينيات من القرن الماضي ولكن بعد أقل من سنتين من الاستقلال الوطني المجيد حدث انحراف في التوجه السياسي للنظام بسيطرة قوى اليسار المتطرف الذين قدموا أفكاراً بعيدة كل البعد عن واقع مجتمعنا في إطاره الإقليمي والعربي والإسلامي .
وبعد ذلك تعرض كثير من الرافضين لهذه الأفكار لمضايقات شتى وأنواع من العسف والاضطهاد ومن ضمنهم العلماء الأجلاء التي تنبع أفكارهم من شريعة الإسلام وقيمه السمحاء .
وبدأ الشيخ الجليل مربي الأجيال يتعرض لصنوف من هذه المضايقات فعندما كان الشيخ الناخبي يتحمل نظارة المكتبة السلطانية في أواخر الستينيات بعد سنوات قلائل جاء واحد من المسئولين من الوزراء البارزين في حكومة الثورة قام بزيارة سريعة إلى المكتبة ، وكان قد سمع أو علم بوجود كتاب يحتوي على خرائط ومعلومات هامة عن المعادن ومواضعها في حضرموت كانت قد أعدته كتقرير رسمي إحدى البعثات الألمانية على عهد السلطان غالب بن عوض الأول ( والد السلطان صالح ) وأصدر الوزير أمره لمحافظ حضرموت أن يكلف الشيخ الناخبي بتسليم الكتاب إليه فرفض ، فهدد بأنه سيُتهم بمخالفة أمر حكومة الثورة ومعلوم عن مصير من يُخالف !!.
ولم إلا أن جاءه أمر بتسليم المكتبة بكاملها وإعفاءه من أمانتها ، وهكذا أخليت مسئوليته عن كافة أعماله وظائفه حتى الخطابة في مسجد عمر أسندت إلى غيره لأنه كان يرفض طرح أفكار لا يقتنع بها في بعض خط بالجمعة ولا يهادن في هذه الأمور السلطة هذا إلى جانب محاولات الاغتيال والإهانات الموجهة إلى شخصه ، فلما ضاقت الأرض بما رحبت على شيخنا أتاه الله بالفرج فمنح رخصة بمغادرة البلاد في عام 1394م الموافق عام 1974م في وقت كان الخروج من حضرموت أصعب من الخروج من القمقم ولكنه الفرج الرباني ، ومنذ ذلك الحين وهو في حمى بيت الله الحرام تحت ظل الحكومة السعودية الرشيدة وبدل الله خوفه أمناً وعاش قرابة ثلاثة وستين عاماً مع أسرته في رحاب الأراضي المقدسة في أمن واستقرار واطمئنان إلى أن وافه الأجل وانتقل إلى جوار ربه يوم الأحد الموافق العاشر من يونيو 2007م