( من أين لي برق
أحمله شغاف الروح
غبٌ الدهشة الأولى
وأرحل في الزحام ؟!
من أين لي مطر
أبادله لآلئ القلب
غب الفرحة الأولى
وأوغل في الغمام ؟!
من أين لي مطر
من أين لي برق
سوى البرق اليماني العنيد )
بـهذا المقطع الشعري الجميل استهل الشاعر علي عمر الصيعري ديوانه الأول (( النهر العصي )) الذي ضم بين دفتيه ستة عشرة قصيدة .
علي الصيعري شاعر كان له حضور في عقد السبعينيات من القرن الفائت . وقد طربنا له لأنه كان من أفضل من يلقي قصائده ، وخير من عبر عن الحياة المعتملة آنذاك ، بعد أن غدا شعر التفعيلة مقبولاً ، وبدأ يأخذ مكانته فينا ، لا سيما ذلك الذي أخذ يتمرد على نمطية المألوف من الشعر الذي وجد عند التقليديين حماساً لكل ما أورثه لنا الأقدمون . وبالمقابل نجدهم يحاربون شعر التفعيلة وينعتون كل من يبدع شعراً حديثاً بأنه لنـزار قباني أو السياب بل وصلوا في تعنتهم إلى المغالاة حينما قالوا بأنه يقدم الشعراء الشباب شعراً حديثاً فيه من الإتباع أكثر من الإبداع . إلى أن ظهر جيل طاهر عاطف، وسعيد البطاطي، وعمر باني، وعلي الصيعري، وسالم بن سلمان، ثم عبدالعزيز الصيغ، وعبدالرحمن بن ثعلب، الذين بدأوا يخرجون عن القاعدة ويؤسسون لجماليات شعرية جديدة أصلت لإبداع يرتقي إلى شعر المحدثين من الشعراء الكبار .
تجلى ذلك في جماليات الصور والرموز الفنية المحملة بأكثر من وجه والتي تقترب من شفافيةو درويش ، ورقة السياب ، وعمق أدونيس وأحمد عبدالمعطي حجازي . وإن كان معظمهم تجد روح درويش بارزة في ما يكتبون.
وطالما أن الحديث هنا عن الصيعري فإننا نقول : أن الشاعر علي عمر الصيعري كان استثنائياً في ما عالجه من قضايا كانت في السبعينيات تشد الكثير منا لما تميز به شعره من مفردات فيها من الوطنية والثوربة عبرت عما نهجس به سيما التي غلفها بثوب فني لم نعهده إلاّ في شعراء المقاومة الفلسطينية آنذاك أمثال سميح القاسم ، درويش ، ممدوح عدوان ومن جايلهم . لنقرأ :
( يا أيها النهر العصي
على مفازات الغبار.
عشرين عاماً
وهو يسقي زهرة التوحيد
من شؤبوب بارقة المسار
عشرين عاماً
وهو يحرسها الشرايين
التشكل في الغدو
وفي الرواح
عشرين عاماً
وهو يجلو الغيم عن غيم
يبلسمها الجراح ) ( قصيدة النهر العصي )
ألم تذكرنا هذه الأبيات ببعض من قصيدة (( أحمد الزعتر )) لمحمود درويش حين يقول :
( عشرين عاماً
كان يسأل
عشرين عاماً
كان يرحل
عشرين عاماً
لم تلده أمه
إلا دقائق في إناء الموز
وانسحبت .. )
وكلما توغلت في قصائد الديوان تجد روح محمود درويش وصوراً من شعره. يقول الصيعري :
( ياأيها الوطن المنمق
في القصائد والخطابة
والنشيد المدرسي
وكل بارقة الصور
يا أيها الوطن المرقع
بالفضاءات العقيمة
يا أيها الوطن .....
يا أيها الوطن ......) (من قصيدة : شكراً لكم)
وليس معنى هذا أن كل قصائد الديوان تنسم بهذه الروح ، بل على العكس فإن معظم القصائد لا تجد فيها إلا روح الصيعري و حسب ، وإن وجدت بعض المقاطع هنا أو هناك تشتم فيها نفس شاعر كبير فهذا لا يعيب .. فمثل هذا يحدث عند العديد من الشعراء والأدباء عموماً وقد اصطلح على مثل هذا التأثر بـ (( التناص )) .. لأن أي كتابة جديدة لا تولد من العدم وإنما تأتي من احشاء كتابة سبقت .. والتميز هنا يأتي من خلال اللغة المختلفة والفكرة والصورة الفنية والمكان والزمان والهم الذاتي والجمعي وحساسية الشاعر أو الأديب :
( حين يأتي المساء
أتوسد نهد حبيبتي ( يمنى )
تتطلع عيناي إلى النهد الآخر
أتذكر /
أبحر في الحلم
تناوشني غيمُ حبلى
تزرع في شفتي التعبى
بسمة طفل.. ملاك )
هنا تنبلج الصورة التي تصور حالة الشاعر وبيئته الطالع منها التي تلهمه الحلم والأمل في التوحد والحياة الأسعد من خلال رؤيته التي تدفعه إلى الإبحار في حلمه لتأتي الأيام الحبلى بالحب والجمال .. لكن الذي ينغص حياته ذلك التوجع الذي يأتي من الداخل قبل أن يأتيه من الخارج:
( الآهة ترتفع كموج اليم
تنازعه عاصفة هوجا /
يتوقف نبضي / ترحل
في ذاكرتي صور
وتجئ بأخرى كدبيب النمل
اتلوى محموماً
ما هذا يمنى ؟!
ما هذا يمـ ....؟!)
لكنه لم يسلَّم أو يستسلم أو ييأس . لأن الأمل باليوم القادم أكبر من التوجع .. فهو حقيقة ينتظرها بتفاؤل :
( فأنا هنا في انتظاركم
على كل حيد
وثغر
وسهل
وفي كل واد
وكوخ
وحقل
فإنا هنانتظاركم
فاقبلوا)
ويتحقق الحلم الذي يغدو واقعاً :
( صباح الخير ..
تحية شوق
في الأسحار
قبل تفتح الأزهار
للطل
احملها القصيدة
كي ترف بها
على خد الجميلة
وهو يعبق بالأريج
مشبعاً بالدفء
والعرق الخضيل
وهسهسات الحلم
منداحاً من المقل
لتطبع فوق خد
الياسمين
نشيدها الأزلى ))
ويظل الصيعري ينشد الفكاك من أسر القيود حالماً بيوم تكتمل فيه الفرحة الكبرى . وحين يمسك بالحلم تظهر له علامات الإنكسار من جديد :
( تتكسر الأقلام فينا
وتغادر الألوان ساحتها
وتقذفها الفجاءة بالذهول
ويستلب وهج الأميرة .
يا صديقي ....
لله فسحة في نوافذ
أمسنا اخضرت لها
كل المرافئ وقتما
كنا نزف عرائس الحلم
المرجى للشموس المستنيرة )
كل قصائد الديوان درراً تنفث حياة وتنفث حباً وتتشح بالأزاهير واللآلئ الدالة على تفتق الأيام الخضر يعيش فيها الإنسان و قبلئذ الشاعر مرفرفاً متنفساً عبق الحرية بكل معانيها وأبعادها لتغدو عطاءاته مكللة بكل شيء جميل ...
لم أقف أمام كل قصيدة فذلك يحتاج إلى ناقد حقيقي وما سبق تقديمه ما هو إلا انطباعات قارئ وصديقً للشاعر علي الصيعري . فالصيعري شاعر متألقاً لو لم تأخذه الصحافة ، وإن كان للحياة ضروراتها .