صناعة التنانير
تعد الصناعات المحلية و الحرف التقليدية من أقدم المهن التي تمثل في مجموعها نمطا من أنماط التراث الشعبي الذي عرفته البشرية ، و قد مارس هذه الصناعات و الحرف قطاع كبير من الناس في أماكن و أزمان مختلفة ، و بما أن هذه الصناعات المحلية و الحرف اليدوية تعد محوراً مهما في فن التراث الشعبي و هو ما يكوّن التراث المادي الذي يقسم إلى قسمين رئيسين هما الحرف و الصناعات الشعبية ، فإن هناك عددا من الصناعات المحلية والحرف التي كانت قد عرفت و راجت قديما ثم توقفت فترة من الزمن و ذلك لاستغناء الناس عنها و عدم الحاجة إليها إضافة إلى عدم مواكبتها للمعطيات الحضارية المتطورة التي تنعم بها مجتمعاتنا المعاصرة و ليس هذا فحسب فهناك أسباب أخرى كثيرة يأتي من أبرزها مزاحمة الصناعات الأجنبية لها من حيث الجودة و رخص الأسعار و هجرة الحرفيين من أهل البلاد إلى أعمال أخرى لسهولة هذه المهن و عائدها المجزي , و على الرغم من ذلك فقد عادت بعض هذه الصناعات و الحرف القديمة مرة أخرى إلى الظهور و لا زال بعضها يمارس إلى الآن و لكن على نطاق ضيق جدا خصوصا في بعض المناسبات الوطنية و المهرجانات التراثية التي تهتم بهذا الشأن . و تعد هذه الصناعات و الحرف شكلا من أشكال هوية المجتمع و تراثه الذي لا ينبغي إهماله أو تناسيه أو التفريط فيه .
في هذه الحلقة سنقف مع إحدى هذه الصناعات الشعبية لنعرضها لكم كما وعدناكم في الحلقة الماضية صناعة متميزة و لا زالت تمارس إلى يومنا هذا كحرفة رئيسة و صناعة عريقة إنها صناعة التنانير ، و التنار أو التنور هو الفرن الخاص بتحضير الخبز بشكل خاص كما يستخدم للشي و أغراض الطبخ الأخرى و هو اسطواني الشكل باحجام مختلفة. تتم صناعته محليا في عدد من مناطق وادي حضرموت و من أبرز هذه المناطق منطقة الحزم بمديرية شبام ، ولاشك عزيزي المستمع أنك قد رأيت كثيرا من التنانير على جانبي الطريق و أنت قادم من مدينة شبام العالية مرورا بمنطقة الحزم فالحوطة حتى وصلت مدينة سيئون و لو أنك واصلت رحلتك إلى الغناء تريم لوجدت هناك معامل أخرى و مصانع يدوية مميزة لصناعة التنانير التي أدخل عليها الفخاريون اليوم تحسينات و إبداعات جعلتها أكثر تميزا ، جمعت بين الأصالة و المعاصرة ، رغم التنافس القوي الذي يحاول زحزحة هذه الصناعة المحلية و استبدالها بما هو مستورد كما هو الحال في كثير من الصناعات الأخرى، فأصبح التنور الحضرمي يعمل بالحطب وعلى الغاز أيضا حيث قام الصنّاع بفتح ثقب صغير في أسفل التنور من خلاله يمكن أن يمر أنبوب يتصل بموقد صنع أيضا محليا و منه إلى اسطوانة الغاز ، و مما يميز التنور الحضرمي أنه أكثر آمانا للمرأة كونه يعزل الحرارة عن سطحه الخارجي فلا تخاف حريقا أو لذعة نار فتخبز فيه كل ليلة دون عناء أو قلق . ويصنع التنور كما هو معروف من الخزف و منه ماهو محروق ومنه ما دون ذلك .
في معمل صناعة التنانير كل المكونات المستخدمة في صناعة تلك التنانير هو عبارة عن أشياء بسيطة مثل أكوام من الحجارة و مجموعة من الأواني الحديدية المستعملة كعلب الحليب و السمن و ما إلى ذلك , وحوض صغير تعجن فيه الطينة الجبلية بالماء والطين (الزبر) و نشارة الخشب ، تمتاز تلك العجينة أنها ذات ملمس ناعم , وهي المادة الاساسية التي تصنع منها التنانير، بالاضافة الى وجود البرم وهو مادة تجلب من محافظة شبوة على شكل حجارة ثم ترّض و تدّق و تعطى للطحان فيجعله دقيق يشبه الأسمنت إلا أنه أخف كثافة و أنعم ملمسا يطلي به سطح التنور من الداخل حتى يتماسك و يسهل نقل الخبز منه بعد نضجه ، و تختلف أحجام التنانير فأصغرها يتسع لقرصين من الخبز ويصل ارتفاعه إلى ذراع أو ذراع ونصف وقطر فوهته فوت واحد ، أما الأكبر فقد يصل ارتفاعه إلى ذراعين ونصف أو ثلاثة و قطر قاعدته إلى فوتين و يتسع لعشرة أقراص من الخبز .
أما في تريم فقد توصل صنّاع التنانير إلى طريقة جديدة لصناعتها وتنانيرهم تختلف عن التنانير الأخرى فهي محروقة و هذا يعني أنها أمتن و أصلب و أغلى أيضا ، فهم يحضرون الطينة و يضعونها في إطار خاص يسمونه ( مفتل ) سمكه يقارب الإنش ، ثم تلف على قالب معد لهذا الغرض بشكل اسطواني و هذه مهارة لا يجيدها إلا خبير فيحصلون على شكل التنور ، بعد إعداد التنور يترك حتى يجف ثم يتم إدخاله الفرن ( الكير ) ليحرق فيكتسب صلابة و مناعة ضد الماء و عوامل التعرية الأخرى و يصير فخارا ، وعملية الإحراق هذه عملية محسوبة ودقيقة فيجب أن يتعرض كل جزء في التنور إلى النار و إلا فإنه ينهار و يتفتت سريعا و يتلف ، و يمكن للكير أن يتسع لأربعين أو خمسين تنورا في عملية واحدة يتم وضعها بصورة فنية .
وقد حققت صناعة التنانير رواجاً داخل وادي حضرموت و خارجه وإلى اليوم , ولم يستطع الإنسان الحضرمي الاستغناء عن تلك التنانير فقد وجدت في كل بيت حضرمي بلا أدنى شك سواء في بلدان الساحل أو الداخل ، و خصوصا بعد أن تم تطويرها و جعلها تعمل بالغاز .
أن صناعة التنانير صناعة شعبية يعتز ويفتخر بها أبناء محافظة حضرموت , وهي صناعة إرتقت الى مستوى التصدير إلى بعض الدول المجاورة مثل سلطنة عمان و المملكة العربية السعودية و دولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها .