الخزف
يعتبر فن الفخار والخزف من أرقى الفنون التي عرفتها الإنسانية ولازمت الحضارات المختلفة منذ أقدم العصور.
ولذلك يهتم منقبو الآثار والباحثون عن حياة الشعوب ، بالفخّار؛ إذ إنه حرفة وصناعة مارسها الإنسان منذ قديم الزمان في بقاع الأرض التي عاش فيها الإنسان ، ومارس صنع احتياجاته.
من هنا نتبين أن تاريخ الفخار حافل بما يستوجب دراسات واسعة النطاق ، والفخار خلال تلك الرحلة الطويلة سجل طبائع وتقاليد البشر المتباينة ومعتقداتهم في الحياة الدنيوية والأخروية.
وبالنسبة للفنون الإسلامية فإن الفخار والخزف من أهم الحرف الفنية التي مارسها الفنان المسلم منذ أن توطدت أركان الإسلام في البلاد المختلفة؛ حيث إن هذا الفن حقق فكرة الحضارة الإسلامية في جوانب متعددة؛ و بما أن روح الإسلام السمحة لا تتماشى واستخدام خامات غالية الثمن مثل الذهب والفضة؛ أقبل الفنانون المسلمون والعرب منهم خاصة على فن الخزف إقبالاً عظيماً، واستطاعوا أن ينتجوا خزفاً على مستوى عالٍ من حيث القيمة الفنية، ولم يكتفوا بذلك بل وصلوا إلى الحد الذي يمكن أن يكون إنتاجهم الخزفي فيه بديلاً لأواني الذهب والفضة من حيث الفخامة والجمال باستعمالهم تقنية تسمى بالبريق المعدني التي تعتبر صفة أنفرد بها الخزف الإسلامي.
و صناعة الفخار تعد من الحرف التقليدية التي اهتم بها أبناء المنطقة منذ القدم ، إذ تدل التقنيات الأثرية التي أجريت في كثير من مناطق وادي حضرموت على أن صناعة الفخار كانت منتشرة منذ آلاف السنين ، لوجود المواد الصالحة لهذه الصناعة ، واحتياج السكان إلى الأدوات الفخارية في طهي الطعام وحفظ المياه و غير ذلك .
و تستخرج المادة التي يصنع منها الخزف من نوع خاص من صخور الجبال يتميز بسرعة ذوبانه في الماء بعد أن يجفف فلا يمكن أن يذوب بعد استخراجه مباشرة إذ أنه يكون نديا فيعرض لأشعة الشمس حتى يجف ثم يغمر في الماء ، حيث يتسلق الفخاريون الجبال باحثين عن هذه الأماكن و إذا مااشتبه عليهم الأمر في نوعية الصخور فإنهم يخضعونها للمختبر الذي يكشف عن نوعيتها تماما ، و تبدأ العملية حينما يتوجه عدد من الصناع إلى الجبل المعني حاملين معهم مصابيح الإضاءة نهارا ، و بعد أن يصلوا إلى المكان المعلوم يتهيأ الجميع للدخول إلى تلك المغارة ـ و إن شئت سمها منجما ـ التي يصل طولها في بعض الأحيان إلى أكثر من 15 مترا في جوف الجبل ، يخرجون من حيث دخلوا حاملين معهم الفوانيس و الأتاريك متحملين حرارة الجو و شحة الأكسجين داخل النفق إنها معاناة .
أسرة آل باني في تريم ارتبطت منذ عهد قديم بالصناعات الفخارية ، و في قصيدة للشاعر الشعبي المعروف عسكول ، استعرض فيها معظم أصحاب الحرف في الوادي و ما يعانونه من متاعب الحرفة و الحياة .
و رغم ذلك كله يجد الفخاريون متعة و هم يجلبون هذه الحجارة من تلك الأماكن الخطرة من أجل لقمة العيش و كأن الله تعالى قد جعل رزقهم في هذه المناجم .. و لكن خطرا آخر يكاد يهددهم و يقضي على حرفتهم و مصدر رزقهم ، إنه الزحف العمراني الرهيب الذي أتى على الأخضر و اليابس و بدأ يتشبث بأطراف الجبال معلنا بداية التسلق و القضاء على كل غال و نفيس :
الصناعات الخزفية و الفخارية من أقدم الصناعات الشعبية على الإطلاق و لعل الحفريات و الشواهد التاريخية هي الطريق الموصل إلى حقائق الأجداد و الحضارات القديمة ، فطبيعة المادة الفخارية القدرة على البقاء لفترات طويلة جدا دون أن تؤثر فيها عوامل التعرية علاوة على أن فيها انعكاسا للموروث الثقافي والحضاري و التاريخي فهي التي تحدد الفترة الزمنية لحضارة ما و من خلالها يتم التعرف على الثقافات التي كانت سائدة في تلك الحضارة البائدة ، إذن أصبح من الواجب علينا جميعا رؤساء و مرؤوسين استشعار الأهمية التي تحتلها هذه الصناعات و تشجيعها و مد يد العون و المساعدة لمن يمارس مثل هذه الحرف بدلا من محاربتها في بعض الأحيان بقصد أو بغير قصد و قديما قالوا : لا تعرف قيمة الشيء إلا بعد فقده ،
و بعد أن يحضر الشباب هذه الطينة الجبلية و يختبروها بعرضها على النار ، يبدأون بالعمل كل حسب تخصصه ، وعند زياره احد المعامل الفخارية بمدينة تريم أخذني دليلي إلى حيث المعمل ، حوش صغير في مبنى قديم يقع على ربوة مرتفعة قليلا و قد جلس عدد من الشباب تحت خيمة جعلوها فوقهم اتقاء حرارة الشمس الملتهبة يتابعون ظلها كلما اتجه قرص الشمس نحو المغرب و من حولهم تنتشر المصنوعات الخزفية ، فنحن جالسين و حولنا اللبن الخزفي ( الطوب ) يحيط بنا من جميع الجهات ، منه الأحمر الذي أصبح فخارا بعد حرقه و شيّه بالنار ـ و تسمى هذه العملية بعملية الفخر ـ و بعض الطوب لازال منتظرا دوره ، و حتى يحين ، يحرص العاملون على حفظه بعيدا عن الماء و خصوصا الأمطار المتوقعة لئلا يتلف ويمتاز هذا اللبن الخزفي بالمتانة و القدرة على البقاء مئات بل آلاف السنين إذ لا تؤثر فيه عوامل التعرية ، و يستخدم الآن في الأفران الخاصة :
ويتم تعلم الحرفة عن طريق الوراثة ، وبذلك تنتقل الحرفة من جيل إلى جيل في الأسرة الواحدة ، ويتم ذلك بأن يأتي الصانع بأحد أبنائه أو كلهم للعمل معه في الورشة ، وتبدأ أول مرحلة في تعلم الحرفة عن طريق المشاهدة ، وتأخذ فترة المشاهدة هذه مدة من أسبوع إلى شهر ثم بعد ذلك تأتي مرحلة المساعدة عن طريق أن يطلب الحرفي "الصناع" من ابنه أن يقوم بمساعدته في نقل الأواني الجاهزة لتوضع في مكان معين في الورشة لا تصله الشمس حتى تجف ، ويساعد والده كذلك في أن ينقل لـه الطين ويجهزه للعمل بعد التحضير ، وهذه الفترة تأخذ مالا يقل عن شهرين إلى 6 شهور ، ثم بعد ذلك تبدأ أولى المحاولات من قبل الابن بأن يقوم بالتوليف والتشطيب ، وخلال تلك الفترة يتدرب على صنع وعمل النماذج الصغيرة مثل الفنجان والكأس والصحن ، وإذا أتقن العمل بـدأ التدرب على صنع النماذج الكبيرة . أما الشخص الذي يتم تدريبه من خارج أسرة الحرفي فأنه يأتي إلى الورشة ليتعلم المهنة وخلال فترة التدريب لا يحصل على أجر ، إنما أجرته تعلم الحرفـة .
و قد كان الحضارمة قديما يصنعون كثيرا من الأدوات المنزلية من مادة الخزف مثل :
الأزيار : الجحال : و هي جرار مختلفة الأحجام تستخدم لحفظ المياة و تبريدها وكذا لخزن التمور و حفظها لفترات طويلة
المحاميس : و مفردها محماس و في العربية محماص وهي المقلاة الخزفية التي تستخدم لتحميص البن الذي اشتهرت به بلاد اليمن لصناعة القهوة .
المراعيض : و مفردها مرعاض و هو الميزاب الذي يستخدم لتصريف المياه من المراحيض أو أسطح المنازل عند هطول الأمطار
الكعدة : و هي الإبريق و تستخدم لصناعة القهوة : و قد قال الشاعر عصيد في مثناة كعدة حل مندرها خطر
فناجين القهوة : و تصنع من الخزف و لا يزال استخدامها إلى اليوم في مناطق البادية و هي صحيّة جدا
معاشر الفناجين : و المعاشر جمع معشرة و هى وعاء خاص يشبه الصحن توضع فيه فناجين القهوة
المباخر و المداخن : و هي المجامر التي تستخدم في أغراض البخور في الأفراح و الأتراح على حد سواء و لها أشكال متعددة و ألوان مختلفة تتفنن النسوة في نقشها و زخرفتها و قد تصنع من الخشب و تثبت في أعلاها قطعة حديدية حتى لا تحترق .
طويس الماء : و هي كؤوس واسعة من الأعلى تضيق تدريجيا حتى تصير بحجم قبضة اليد يسهل امساكها والشرب بواسطتها وقد تراها بعض مساجد وادي دوعن .
أوعية المصاحف المكتوبة باليد : و هي أشبه ماتكون الآن بالأدراج المخصصة في المكاتب لحفظ الكتب و يصل طولها ـ كما يذكر السيد محمد بن علوي العيدروس أحد المهتمين بالكتابة في الموروث الشعبي بمدينة تريم في كتابه المعد للطبع الحرف الوطنية ـ إلى حوالي 100 سم و عرضها 40 سم و تؤلف من 7 أدراج ثم توضع فيها الأجزاء حسب التسلسل المعروف
السُـفح : و مفردها سفيح و هو وعاء يوضع فيه الماء للغنم و غيرها من الحيوانات ، و تستخدم اليوم كأصص و مزهريات لتربية الأزهار في بعض البيوت و الفنادق ، و كانوا قديما يضعون فيها الماء و النوى المدقوق ( الرضيح ) كي يقدم كغذاء نافع لتسمين الأغنام
و هناك مصنوعات خزفية أخرى تم الاستغناء عنها تماما مثل الملخة و الكعدة و المصب و ألعاب التراث وكأسات الماء و الخيش الخزفي الذي لا تزال بقاياه إلى اليوم على سطوح بعض المنازل و غير ذلك ،
و من أبرز هذه الأدوات الخزفية التي لاتزال إلى يومنا هذا ( التنانير )
والى اللقاء مع حرفة وصناعة اخرى من محافظة حضرموت .