الدباغة
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .. الأعزاء في كل مكان .. مرحبا بكم في موضوع جديد حول ( حرف و صناعة شعبية والذي سنحاول فيه عرض صناعة شعبية و حرفة تقليدية قديمة قدم الإنسان . إنها حرفة الدباغة و الصناعات الجلدية / أيها الأعزاء كلنا نجمع على أن الجلد الطبيعي أفضل بكثير من الجلد الصناعي فهو قوي ، و صحي ، و متوافر في بيئتنا و في متناول أيدينا ، و قد استخدم الإنسان جلود الحيوانات منذ القدم لأغراض كثيرة و منعددة و كلنا ندرك أن القرآن أول ما كتب ، كتب على جريد النخيل و جلود الحيوانات ، و تبادل الملوك و الزعماء الرسائل و المخاطبات و المكاتبات باستخدام الجلود الرقيقة من خلال الكتابة عليها ، إضافة إلى مصنوعات جلدية أخرى كالأحذية و الأحزمة و الأوعية و غير ذلك . و يذكر المؤرخ عبد القادر محمد الصبان في كتابه دليل متحف العادات و التقاليد الشعبية أن الصانع اليمني يتخذ قوالب من الطين ( الطفل ) للمصنوعات الجلدية المجوفة يتم تشكيلها حسب الوعاء المراد صناعته ثم يأتي بالجلد بعد دبغه و إخراج الشعر منه و ترقيقه حتى يكون كالورقة فيلفه على القالب لفا محكما مشدودا و يجعل بين فواصل الجلد مادة لزجة ثم يضع ذلك في الشمس حتى إذا بدا القالب الطيني بالتشقق صب عليه الماء من راس القالب فيسيل الماء وسط القالب و يمتزج الماء بالطين و يذوب القالب الطيني و ينتهي دوره بينما يحتفظ الوعاء الجلدي بشكله الجديد ، و كل مصنوع جلدي له قالبه الخاص به ، و من هذه الأوعية الجلدية التي استخمها الإنسان الحضرمي قديما :
السمار: و هو وعاء لحفظ العسل أو السمن أو الزيت و يقال له وعاء العسل .
البطة : وعاء جلدي مجوف يوضع فيه الزيت . و في المثل : يدهن لك من بطة خليّة .
الشكوة : و يستخدم لحفظ اللبن و مخضه و تحويله الى لبن رائب . و قولهم : ياشكيوة نودي نودي
المسب : و هو وعاء جلدي يستخدم لحفظ الدقيق فيه
كما استخدمت الجلود أيضا في صناعة
الأحزمة الجلدية : ترصع بالمعدن و توضع على خصر المرأة
الكسعة ( النسعة ) : حفيظة من الجلد لحفظ الدراهم
الحزام : و هو حزام جلدي مرصع بالودع .. إضافة إلى الميزان الجلدي و غير ذلك ،
و دباغة الجلود أيها الأعزاء حرفة خاصة تحتاج إلى صبر و تحمل و اقتناع . و قد كانت المدابغ إلى وقت قريب منتشرة في كثير من مناطق وادي حضرموت / أما اليوم فلم يتبق منها إلا القليل في بعض المناطق مثل مدينة الحوطة و الحزم بمديرية شبام وفي سيئون و القطن و تاربة ، و لا زالت هذه المدابغ تمارس أعمالا كثيرة وانتاجها في السوق واضح للعيان متمثلا في الأحذية الجلدية المحلية و قرب الماء و غير ذلك من الجلود المفتوحة التي يستخدمها مجلدو الكتب / و كان الدباغون يستخدمون الجلود بمختلف أنواعها و أحجامها إلا أنه في الآونة الأخيرة تم الاقتصار على جلود الأغنام و خصوصا الماعز لسهولة التعامل معها . أما جلود الضأن فيأخذها أصحاب المصانع الجلدية المحلية حيث تتم الاستفادة من صوفها و جلدها الناعم بعد دباغته بالآلات و إضافة الألوان الزاهية عليه و القضاء على ما يتبقى من آثار رائحة الجلد المدبوغ بالوسائل التقليدية ،
و أدوات المدبغة بسيطة للغاية فهي الجلود أولا ثم الماء و القرض و الملح و نبات العشر و عدد من الجرار الخزفية الكبيرة ( الزيار ) ،
يقومالدباغ بأخذ الجلود من المذبحة بتنسيق مسبق مع بعض الذباحين و يحرص على أن يكون الجلد صحيحا سليما و أن يكون جلد ماعز ، أما جلود الضأن فيأخذها أرباب المصانع الجلدية المحلية الموجودة حاليا في بعض المناطق اليمنية الأخرى كمدينة صنعاء و عدن و الحديدة و غيرها كونها تحتاج إلى جهد أكبر ، يتم بعد ذلك و كخطوة أولى التخلص من بقايا قطع اللحم الصغيرة و الشحوم و الدماء العالقة بالجلد بغمره في ماء و ملح و السائل الأبيض لنبات العشر و يكون ذلك في مكان بعيد خال من السكان إذ تنبعث من هذا التفاعل بين هذه المواد رائحة شديدة جدا لا يتحملها إلا شخص دباغ ألفها !! بعد أيام معدودة تنقل هذه الجلود و قد ذهبت بعض رائحتها إلى محلول آخر من الماء و مادة القرض : التي تشبه إلى حد كبير ـ بعد طحنها ـ أوراق السدر المطحونة أو ما يسمى بالغسة أو اللين لولا رائحتها المميزة ، و يتم جلبها من أعالي وادي دوعن من السيطان و تباع بأسعار مناسبة نوعا ما إذ يبلغ ثمن الكيس الذي يزن بين 40 – 45 كجم الألف ريال . تبقى الجلود لفترة أربعة أيام في هذا المحلول مع تقليبها و دعسها بالأرجل لمدة ربع ساعة يوميا و تسمى هذه العملية بالنفس الأولى ، أما النفس الثانية فتتم بعد أن يتخلص الصانع مما تبقى من الشحوم و آثار القرض ، بغمر الجلود مرة ثانية في محلول الماء و القرض و لكن هذه المرة لمدة أسبوع و تزاد كمية القرض كي يغلظ الجلد و يزداد سمكه ، بعد أن يخرج الجلد من هذه المرحلة يكون التعامل معه سهلا فقد أصبح نظيفا طاهرا ذا رائحة مقبولة ، يأخذه الصانع و قد أصبح لونه طبيعيا فتتم عملية الخياطة أو الخرز و هي من أصعب المراحل و لايجيدها إلا شخص حاذق فلابد أن تكون محكمة للغاية حتى لا يتسرب من خلالها الماء ثم يدهنه ظاهرا و باطنا بالدهن العادي و يعرضه للشمس يوما أو يومين ثم يعرض للبيع في السوق ، و خلال أسبوع واحد يتمكن الصانع من إنجاز ما يقارب من 40 قطعة و مصنوعة جلدية بين قربة و شكوة و جلد مفتوح ليحصل على دخل جيد كاف له و لأسرته .
أيها الأعزاء : لعل أبرز ما نشاهده من صناعات جلدية اليوم هو القرب التي استخدمها الانسان الحضرمي ـ و لا يزال ـ في حفظ المياه و تبريدها لا سيما في المناطق النائية و الصحراوية البدوية حيث لا كهرباء و لا ثلج ، ويقول شيخ مسن : أنه يجد لذة حينما يشرب من ماء القربة ، لا يجدها في ماء البراد ! و ربما مررت عزيزي يوما ما ، بنخلة على الطريق و رأيت قربة ماء معلقة بجذعها ، فشدك الشوق و الحنين إليها كي تشرب كاسا من مائها البارد اللذيذ .
و لا غرابة إذا عرفنا أن هذه المصنوعات الجلدية و خاصة القرب يتم تصديرها أيضا و بكميات لا بأس بها إلى دول الجوار و خصوصا مناطق البادية منها كالمملكة العربية السعودية و دولة الإمارات العربية المتحدة ناهيك عن المناطق البدوية في بلادنا :
أليس جدير بنا أيها الأعزاء أن نهتم بمثل هذه الصناعات الجلدية التي لها مردود مادي جيد و التي يمكننا أن نجعلها مصدرا آخر للدخل الوطني باعتبارها صناعة رائجة و تباع بأسعار خيالية في بعض الأحيان !
إن الصناعات الجلدية ذات أهمية كبرى و لها من الفوائد الصحية ما يخفى على الكثير منا . يقول الاخ عمر أحمد بن سعد صانع أحذية جلدية ، وهو صاحب محل في مدينة سيئون : إننا نحاول تطوير الصناعة المحلية لتواكب التطور الصناعي الجاري و الفرق الوحيد بين صناعتنا المحلية و الصناعة الخارجية ( الشبّه ) .
أيها الأعزاء المصنوعات الجلدية لازالت هي الرائجة في سوقنا المحلية و كثيرا ما نسأل عندما نريد شراء حذاء أو حزام أو نريد أن نجلد كتابا لحفظه من التلف : ما نوع الجلد . هل هو طبيعي أم صناعي ؟ و كم نسر إذا كانت الإجابة : إنه جلد طبيعي ، ولا شك أيها الأحبة أن كل شيء طبيعي قريب إلى النفس و إلى طبيعتها و لكننا غصنا في متاهة الصناعات الحديثة التي لا تسعفنا وقت الضرورة أحيانا كثيرة وربما اشتكى بعضنا من بعض المنتجات الصناعية الوافدة إلينا و التي ندري عنها شيئا إلا ما أريد لنا أن نعرفه . و ما أقبح أن يعرف الإنسان أهمية ما يملك ، بعد فوات الأوان ، أيها الأحبة إن بين يدينا كنوزا ينبغي بل يجب علينا أن نعيرها كل اهتمامنا :
. شكرا لكم اعزائي على حسن المتابعة و إلى اللقاء مع حرفة جديدة انشأالله .